يُحكى أنّه في بلدة صغيرة يوجد رجل عجوز يُدعى نعمان، كان العم نعمان في نهاية اليوم يذهب للجلوس في آخر البلدة، حيث يرى الخضرة على يمينه والترعة أمامه والعصافير التي تملك المنظر الجميل على شماله، وكان ينظر إلى السماء؛ حيث يلفت نظره منظر السحاب الذي يُسرع في الذهاب، وعند مشاهدته هذا المنظر تكاد عينية تفيض بالماء الذي سرعان ما يترك على خديه دون أن نعلم ما السبب في بكائه أو حتى دموعه المنهمرة، وكان يطول جلوسه وتأمله في مناظر الطبيعة حوله والسماء فوقه، وفي يوم من الأيام بينما كان يجلس العم نعمان كعادته، إذ بشاب لم يتعدَّ عمره العشرون يذهب إلى مكان العم نعمان؛ فنظر إليه العجوز نظرة دهشة، ثم سأله: من أنت يا ولدي، وما الذي جاء بك إلى هنا؟!
فكانت إجابة الولد مدهشة؛ حيث قال إلى العم نعمان: دعك وشأني أيها العجوز؛ فأنا شهاب الذي يضيع منه الشباب، وجئت إلى هنا كي أتحدث مع أحزاني، وأنا أجلس في مكاني كي لا أدع أحد يراني.
فسكت العم نعمان قليلًا، ثم بدأ في الحديث مع ذلك الشاب قال له: لِمَ هذه الحدة التي كانت في كلامك عندما تحدثت؟ وماذا عن قلبك الذي قلت أنّه يمتلئ بالأحزان في عمر لم يُناهذ الهموم كي يتحملها؟
ثم وضع يده على رأس شهاب وقال: أنا العجوز كما قلت أنت؛ لكن تعلم! رغم الشيب وقلة الحيلة لم أجعل قلبي يلمسه المشيب، وها أنت تراني في لحظة مغيب أجلس وأتحدث مع ذاتي وأستشعر الطبيعة وأرى السحاب وأترك كل شيء خلفي، ثم طلب من شهاب أن ينظر إلى السماء ويُخبره ماذا يرى؛ فبالفعل أنصت شهاب إلى العم نعمان وقال له: أرى سحابًا متسارعًا ذاهبًا في فراغٍ واسع لا يعلم أين نهايته، وأيضًا متى سيتوقف.
فأجابة العم نعمان في صوت وضيع يقول فيه: أحسنت يا ولدي؛ فهكذا تكون حياتك مثل السحاب تمامًا، تُولد في فراغٍ واسع يُسمى الحياة، وتكبر فيها دون أن تعلم النهاية؛ فلما الحزن يا صغيري! فأنت في بداية المشوار، لا ينبغي عليك أن تيأس؛ فكما ترى السحاب يُسرع في الذهاب، فأنت أيضًا ستُسرع في الذهاب في الحياة، لكن السحاب لا يقلق؛ لأن اللّه هو من يدبر أمره، فكذلك أنت أيضًا لك رب يدبر أمرك وحياتك؛ فكن على حرص كي تحمي قلبك من الاكتئاب وأنت في عمر الشباب، فإذ بشهاب يقطع حديث العم نعمان ويسأله: فلِمَ رأيت دموعك أيها العجوز عندما كنت تنظر إلى السحاب!
فضحك العم نعمان وأخبره أنّة بكى لتركه الأيام تجرى منه كالسحاب حتى وجد نفسه عجوزًا يجلس لا يملك سوى التأمل فقط.
فطلب شهاب نصيحة من العم نعمان؛ فنصحة قائلًا: لا تبكي على اللبن المسكوب يا ولدي؛ فالبكاء لم يفيد بشيء، فهو أنسكب وما عاد يصلح، كذلك لا تضيع عمرك وشبابك في أبحر الأحزان، وكن شجاعًا وتغلب على مواجعك كي تعش في سلام، واعلم أن الدنيا ليست دار سلام واطمئنان؛ بل هي دار ابتلائات كي تصبر وتتحمل وتصل إلى بر الأمان، وهو دار السلام والأمان الحقيقية حيث يوجد السحاب يا عزيزي.
فضحك شهاب قائلًا: كم أنك حكيم أيها العجوز! لكني أعدُك أن جلسة تأمل السماء هذه لن أنساها قط، وسأظل أضع نصائحك في أذني حتى المشيب، وآتِ كي أجلس هذه الجلسة وأنا يتخللني الشيب ما عدا قلبي كما تعملت منك.
فضحك العم نعمان وحضن شهاب، ثم جلسوا يتأملوا سويًا وتعلوا ضحِكاتهم وكأن شيئًا لم يحدث.
بقلم/ إسراء خورشيد