وها أنا يا حبيب وها أنت، وقد عُدنا مجددًا بعد فراق أرهق قلوبنا.
•••••••
ـ أسدل الليل ستائره على الجميع ذاهبين في ثباتٍ عميق، إلا من حمزة الذي كان مقتادًا سيارته عائدًا من العمل، يبتسم من وقتٍ لآخر متعجبًا من نفسه، يسأل نفسه ما الذي يضحكه هكذا، غير ذاك الشعور بقلبه الذي يشعر به منذُ الصباح، شعور سعادة، راحة، لم يشعر بهم قط منذُ رحيل شامة، وصل أمام منزله، هبط من سيارته بعدما أدخلها في الكراج الخاص بالسيارات، ولج للداخل صاعدًا للأعلى بعدما وجد الجميع قد خلد للنوم، اتجه لغرفته ودلف للمرحاض، غاب به بعض الوقت، ولج منه بعدما توضأ، التقط سجادة الصلاة واتجه ناحية القبلة بغرفته، فرش سجادة الصلاة على الأرض وقف أمام ربه يكبر بخشوع يملأ صدره، كبر ومن ثم ركع وبعدها سجدَ يناجي ربه ويشتكي له كعادته في كل فرضٍ يؤديه، بعدما انتهى حمزة من صلاته ظلَ جالسًا على السجادة كما هو قائلًا آية الكرسي ومسبحًا على عقلات أصابعه، نهض من مكانه والتقط المصلاة من الأرض وقام بتنيها ووضعها بمكانها المخصص، اتجه لفراشه وألقى جسده عليه بتعب، أغمض عينيه براحة يشعر بها لأول مرة منذُ أربعة أعوام.
••••••••
ـ كانت حكمت جالسة في غرفتها بعدما انتهت من صلاة القيام داعية الله أن يريح قلب ابنها وأخذت تدعو له بصلاح الحال، انتبهت لصوت المرحاض بغرفتها الذي يُفتح، ولج منه سامح زوجها واضعًا المنشفة على رأسه يُجفف شَعره من المياه عليه، اتجه ووقف أمام المرآة، هندم شعره ومن ثم اتجه إلى الفراش وجلس عليه بشرود، تعجبت حكمت من حالته تلك، نهضت من مكانها واتجهت إليه، جلست بجانبه هاتفة باستفهام:
ـ مالك يا سامح، في حاجة؟
ـ كان سامح شاردًا فيما حدث وغير منتبهٍ إلى صوت زوجته الجالسة بجواره، ربتت حكمت على يديه معاودة سؤالها مرة أخرى:
ـ سامح، في إيه؟ مالك ساكت كدا؟
ـ انتبه سامح ليديها المحاوطة يديه رامقًا إياها بتساؤل: في حاجة يا حكمت؟
ـ هتفت حكمت متعجبة: أنتَ اللي مالك يا سامح؟! في حاجة مضايقاك؟
ـ تنهد سامح بضيق هاتفًا: مفيش يا حكمت، مضايق شوية.
ـ رفعت حكمت يديه المحاوطة بيديها مربتة عليها بحنان هاتفة بتساؤل:
ـ إيه اللي مضايقك؟ احكيلي يمكن ترتاح شوية.
ـ تنهد سامح وهتف راميًا ما بجوفه على مسامع حكمت: شامة رجعت مصر تاني.
ـ انصدمت حكمت من حديثه للتو موسعة حدقتيها بصدمة هاتفة بهلع: رجعت مصر!
أكملت بغصة عالقة في حلقها: ع...عرفت منين إنها في مصر؟
ـ رد عليها سامح قائلًا: الصفقة الجديدة كانت هتتم مع شركة من كندا، والشركة دي طلعت بتاعت شامة.
قص لها سامح ما دار من حديث بينه وبين شامة اليوم.
ـ تفاجأت حكمت من حديثه هاتفة: طب...طب حمزة عرف إنها رجعت؟
ـ نفى سامح برأسه هاتفًا: لا محدش يعرف غيري، وأنا طلبت منها ترجع تاني مطرح ما جت.
ـ هزت حكمت برأسها قائلة: أيوة أيوة، هو دا الصح، لازم تسافر تاني قبل ما حمزة يعرف.
•••••••
ـ كانت واقفة أمام باب غرفتهما واستمعت لحديثهما عن عودة شامة مرة أخرى، اتجهت إلى غرفتها، ولجت بداخلها بغضب، نفت برأسها هاتفة بجنون:
ـ لا لا، مستحيل، مستحيل أخليها تاخده مني، لا لا، مش بعد كل اللي عملته علشان يبقى ليا، لا حمزة ليا أنا وبس، ومستعدة أق...تل أي حد يفكر مجرد تفكير إنه ياخده مني، لا مش بعد كل اللي عملته علشانه...
ـ قاطع حديثها صوت سيف من الخلف هاتفًا بغموض: عملتِ إيه يا حبيبة؟ وعلشان مين؟
ـ التفتت حبيبة التفاتة سريعة لمصدر الصوت هاتفة بارتباك: س...سيف، أنا، أنت كنت فين؟
ـ تجاهل سيف حديثها معاودًا سؤاله مجددًا: مين اللي عملتِ علشانه كل حاجة يا حبيبة؟
ـ ارتبكت حبيبة من سؤاله مجددًا هاتفة: دا...دا، اه دا كنت بسمع مسلسل تركي وكان فيه المشهد دا وعجبني؛ فكنت بمثله.
ـ هز سيف رأسه بشرود متجهًا للمرحاض دون الحديث، زفرت حبيبة بارتياح بعدما ولج للمرحاض هاتفة:
ـ الحمد لله.
•••••••
ـ كانت جالسة على الفراش بجوار ابنتها الساقطة في نوم عميق لا تستطيع النوم؛ فكلما أغمضت عينيها يجول بخاطرها ما حدث اليوم، تنهدت بثقل هاتفة:
ـ يارب تريح قلبي يارب.
ـ ظلت قابعة على الفراش قليلًا من الوقت ناظرة في اللاشيء بشرود تفكر بشيءٍ ما.
ـ وضعت رأسها على الوسادة في محاولة منها للنوم بعدما فكرت بشيءٍ ستفعله غدًا قبل عودتها لكندا مرة أخرى، احتضنت كيان بين ذراعيها ساقطة في ثبات عميق.
•••••••••
ـ حـل الصبـاح على الجميع بمصر بعد ليل يملؤه الكلل على البعض، البعض الحاقد، البعض المتألم، البعض المشتاق، البعض السعيد؛ فهل سيدوم كل هذا يا ترى، أم ستنقلب أحوالهم؟
ـ نهضت شامة من الفراش، ولجت للمرحاض، اغتلست ومن ثم ولجت، اتجهت إلى خزانتها والتقطت منها ثياب لها، انتهت من ارتداء الثياب، اتجهت إلى هاتفها والتقطته من مكانه وأجرت اتصالًا مع أحدٍ ما ووضعته على أذنيها تنتظر الرد.
ـ كانت نائمة على فراشها متوسط الحجم، بغرفتها الصغيرة المتواضعة، استيقظت على صوت رنين الهاتف بجانبها، التقطته ورمقت اسم المتصل، نهضت من مكانها لتجيب عليه، هتفت بصوت ناعس:
ـ ألو.
ـ كانت شامة واقفة تنتظر الرد، حتى سمعت الصوت من الجهة الأخرى، هتفت بهدوء وتريث:
ـ ألو يا ضحى، ممكن تيجي تقعدي مع كيان عبال ما آجي من المشوار اللي رايحاه!
ـ أجابت ضحى من على الجهة الأخرى هاتفة: حاضر، ساعة بالكتير وهكون عندك.
ـ أغلقت شامة الهاتف واتجهت إلى الفراش؛ لكي توقظ كيان.
ـ أعدت شامة كيان، طلبت لها الافطار، تناولته كيان وجلست تلعب لحين مجيء ضحى، كانت شامة واقفة تعد حقيبة يديها، تضع بها بعض المقتنيات اللازمة لها، قاطعها طرق على الباب أيقنت أنها ضحى، اتجهت وفتحته، صدق حدسها؛ فكانت ضحى بالفعل، أدخلتها شامة وأغلقت الباب، اتجهت لهما وهتفت:
ـ أنا هروح مشوار على السريع وآجي يا ضحى، مش هتأخر، خلي بالك من كيان.
ـ أومأت ضحى برأسها هاتفة بابتسامة: خدي راحتك متقلقيش عليها.
ـ اتجهت شامة لحقيبتها والتقطتها، ولجت خارج الغرفة ذاهبة لمكان ما.
••••••
ـ كان قابعًا أمام المآأة بغرفته يهندم ملابسه للذهاب لعمله، جاءت زوجته من الخلف هاتفة بشرود، ملامح ذابلة:
ـ يلا الفطار جاهز.
ـ انتبه لها سامح ولشرودها وملامحها الهلعة هاتفًا: مالك يا حكمت؟
ـ هتفت حكمت بقلة حيلة: خايفة يا سامح، خايفة.
ـ أمسك سامح بيديها واتجه بها، أجلسها على الفراش جالسًا أمامها القرفصاء، محاوطًا كف يديها بكفه، مربتًا عليه هاتفًا باطمئنان لها وهو من يحتاج إلى ذلك الاطمئنان، وأحد يطمئنه أن كل شيء سيصبح على ما يرام ويعود لِمَ كان عليه كما يقول المثل الدارج (المياه ستعود لمجاريها مرة أخرى):
ـ أهدي يا حكمت متخافيش، بإذن الله كل حاجة هتبقى تمام، وكل حاجة هترجع زي ما كانت وأحسن.
ـ رمقته حكمت بشك هاتفة: قصدك إيه يا سامح كل حاجة هترجع زي الأول؟
ـ رمقها سامح بشرود دون الرد على سؤالها، هتفت حكمت تنتظر منه إجابة على سؤالها هاتفة:
ـ قصدك إيه يا سامح؟
أفلتت يديها منه ونهضت هاتفة بفزع: اوعى، أوعى يكون قصدك إن شامة وحمزة يرجعوا لبعض؟ كلامي صح يا سامح؟
هزته من مرفقه هاتفة: رد عليا يا سامح.
ـ هتف سامح بتريث وجمود: أيوة هو دا قصدي يا حكمت.
ـ صرخت حكمت به وهتفت بصوتٍ عالٍ: أنت بتقول إيه يا سامح؟ دا على جثتي البت دي تدخل بيتي وحياة ابني تاني.
ـ صرخ بها سامح هاتفًا: حكمت، وطي صوتك وأنتِ بتتكلمي معايا، حسك عينك تعلي صوتك تاني لمّا تبقي بتكلميني، وبعدين أنتِ إيه يا شيخة؟ مش شايفة حالة ابنك عاملة إزاي؟ مصعبش عليكِ نهنأته وعياطه طول الليل، ودعاه بإنها ترجعله تاني في كل ساجدة، ولا جسمه اللي نزل ولا السواد اللي تحت عينه من قلة النوم؟ طاحن نفسه في الشغل علشان يحاول ميفكرش فيها، المهمات اللي كان بيطلعها، مش فاكرة لمّا كنتِ تفضلي تعيطي علشان ميطلعش مهمات صعبة زي دي، علشان كنتِ خايفة عليه لميرجعش منها؟ ها، دا كله مش فارق معاكِ في حاجة ولا خلاكِ تشفقي على حالة ابنك؟ دا بدل ما تحاولي أنتِ تدوري على مراته وترجعيهاله؟ فين قلبك؟ إيه حجر؟ وكنت شايف كل تصرفاتك معاه وإجبارك له إنه يتجوز بنت أختك بالعافية، وكنت بقول هو دا الصح، بس لمّا شوفت شامة امبارح ولهفتها لمّا جبت سيرة حمزة قدامها، وشوفت في عينيها إنها عندها أمل إنهم يرجعوا لبعض، بس للأسف بكلامي ليها امبارح خليتها فقدت الأمل دا.
أكمل بندم: بس لمّا قعدت مع نفسي وفكرت كويس في الموضوع اكتشفت إن كل اللي حصل دا كان غلط، وشوفت حمزة امبارح وهو بيعيط زي كل يوم في صلاته إن ربنا يجمعه بيها، بس امبارح كانت غير الأيام اللي فاتت، امبارح شوفت الراحة والابتسامة على وشه وهو نايم، حاسس إن في حاجة كويسة هتحصل وإن لقاه هو وشامة قريب، وأنا ربنا جعلني وسيط علشان أجمعهم هما الاتنين مع بعض من تاني، هو دا اللي هعمله، وأتمنى يكون الوقت مفتش وشامة سافرت تاني، علشان صدقيني لو حمزة عرف ممكن يروح فيها، ياريت تفوقي يا حكمت وتعرفي أنتِ بتعملي إيه قبل فوات الآوان وخسارة ابنك.
ـ تركها سامح واقفة ببهو الغرفة ذاهبًا لشركته؛ لكي يفكر فيما عليه فعله لعودة شامة لابنه.
••••••
ـ تعلن شركة مصر للطيران عن وصول رحلتها المتوجهة من تورونتو العاصمة الاقتصادية لكندا لمطار القاهرة الدولي وترحب بالسادة الركاب.
(كان هذا صوت المضيفة الذي صدح في صالة المطار)، ولج كلًا من هيثم، سناء، مريم، أوقف هيثم إحدى السيارات وأعطاها عنوان الفندق التي تقبع به شامة وناديم، بعدما هاتفت سناء ناديم وسألته عن مكان تواجدهم بمصر، ناديم الذي تفاجأ من مجيئهم بعدم إخبارهم لأحد، طلب ناديم المجيء لأخذهم من المطار، لكن سناء رفضت رفضًا قاطعًا لتجنب شك شامة بالأمر؛ لأنها ودت أنا تكون مفاجأة لها، أيد ناديم حديثها وأملهم عنوان الفندق الذي يقبعون به خائفًا من القادم.
ـ صعدت سناء ومريم بالسيارة متوجهين للفندق بعدما أخبرهما هيثم بالذهاب لمنزله؛ لكي يرى والدته وشقيقته، بعدها سيأتي ويصطحبهما لمنزله لليتعارفا على والدته.
•••••••
ـ أوقفت شامة السيارة أمام شركة أبو زوجها أو كما قالت هي زوجها السابق، ولجت منها دالفة للداخل، كان أول من رآها سيف الذي وقف منصدمًا مما رأى؛ فهذه زوجة شقيقه التي تركته وافترقت عنه منذُ أربعة أعوام، وجدها متجهة إلى مكتب والده بعدما أرشدتها موظفة الاستقبال عليه، هرع خلفها، وجدها واقفة أمام المكتب منتظرة ولوج السكرتير الخاص بأبيه يخبرها بالدلوف، هتف باهتزاز:
ـ ش...شــــامــــة!
ـ التفتت شامة لمصدر الصوت، وجدته سيف واقفًا منصدمًا من وقوفها أمامه، لا يصدق ما تراه عيناه، هم بالحديث ولكن قاطعه ولوج السكرتير من مكتب أبيه يخبر شامة بالدلوف، رمقته شامة بابتسامة ومن ثم ولجت لمكتب والده.
ـ نهض سامح بفزع ودهشة من وجود شامة بمكتبه حامدًا الله بداخله على عدم سفرها بعد، اتجه لها بلهفة هاتفًا:
ـ شامة! اتفضلي يا بنتي، الحمدلله إنك مسافرتيش، كنت...
ـ قاطعته شامة هاتفة بتعجب: وحضرتك يا عمي مكنتش عايزني أسافر ولا إيه؟! مش حضرتك اللي طلبت مني أسافر وأبعد عن هنا؟
ـ طأطأ سامح رأسه بندم هاتفًا: آسف يا بنتي، كنت غلطان لمّا طلبت منك كدا، وبطلب منك دلوقتي علشان خاطر حمزة وحبه عندك متسافريش وارجعيله يا شامة، حمزة حالته تلين وتبكَي الحجر يا بنتي، حمزة في بُعدك مش عايش يا شامة.
ـ اتجهت له شامة بدموع تسيل على وجنتيها كالسَريّ رافعة رأسه هاتفة: كان على عيني والله يا عمي بس مينفعش.
ـ قاطعها سامح بلهفة: ليه مينفعش يا بنتي؟ ارجعي وكل حاجة هترجع زي ما كانت.
ـ هتفت شامة بشَجَن يجتاح ملامحها: مفيش حاجة هترجع زي الأول يا عمي، اللي لنكسر مستحيل يتصلح.
ـ هتف سامح بكلل: ارجعي أنتِ وكل حاجة هتتصلح، و...
ـ قاطعته شامة هاتفة: عمي، عمي لو سمحت أنا جاية أطلب منك طلب قبل ما أسافر.
ـ هتف سامح متعجبًا: طلب إي؟!
ـ تنهدت شامة بثقل هاتفة: عايزة أشوف حمزة، بس من...
ـ قاطع حديثها صوت رنين هاتفها الذي صدح صداه في المكان، أخرجته شامة من حقيبتها، رمقت اسم المتصل الذي يضيء شاشة الهاتف، وجدتها ضحى هي من تتصل، فتحت شامة عليها الخط بلهفة خوفًا من أن يكون حدث مكروهًا لكيان، همت بالحديث ولكن قاطعها صوت ضحى، سقط الهاتف من يد شامة هاتفة بصدمة يصحبها الهلع هاتفة بدموع تسيل على وجنتيها كالسَريّ لا تدري متى سالت على وجنتيها:
ـ كـــيـــــــان.
# يتبـــــــــع...
ـ احم، انتظروني في الجزء الثاني من الحلقة الأخيرة.