كانت تلك الطفلة القصيرة والنحيلة أيضًا؛ التي لم يمر من عمرها سوى ثمانية أعوام فقط، ذات الشعر القصير المجعد، وعيون خضراء بجمال الطبيعة، وخدود وردية تشبه ذلك الورد؛ الذي في أرجاء بلدتها، كانت ذات ابتسامة ساحرة لكل من رآها، كانت تعيش حياة سعيدة بكل ما تحملها الكلمة من معنى، "هل حقًا ستدوم تلك السعادة؟"
كانت تمتلك عائلة تحبها كثيرًا؛ فهي طفلتهم المدللة، كان لديها الكثير من الأصدقاء؛ الذين تلهو معهم هنا وهناك، كانت طفولتها أشبه بالجنة، "ولكن هل ستدوم؟"
وكيف لا تكون بذلك الجمال؛ فهي طفلة صغيرة لم ترَ شيئًا من شقاء الحياة بعد، كانت مجتهدة في دراستها، وكانت تتمنى أن تكون كاتبة في الصحافة؛ لتحكي لكل العالم عن جمال بلدتها، "لم تكن تعلم ماذا سينتظرها"، كانت تتميز في ذلك العمر أنها كل يوم قبل النوم تكتب مذكراتها عن ما حدث في ذلك اليوم وتختم بأمنية لبلدتها، وفي ذات ليلة، كتبت بعدما تمنت أن تكون بلدتها بخير دائمًا، "ولكن لم تحقق تلك الأمنية للصغيرة"، فاستيقظت على صوت انفجارات قنابل هنا وهناك، وسمعت صوت صراخ يعلو أكثر فأكثر، والناس يهرولون مسرعين خارج البلدة كأن الموت يلحقهم، وتلك الصغيرة رأت كل هذا، رأت أيضًا عائلتها وهم غارقون بالدماء وهم يدهسون عليهم، "كأن دماء البشر بالنسبة لهم ماء لا أكثر"، كان والدها لايزال حيًّا، لكنه كان في آخر لحظاته، ورأى صغيرته والدموع في عينيها وتختبئ خلف باب الغرفة، "كان يتمنى أن يعناقها ويعطيها الأمان لكن.."، أخبرها أن تذهب من تلك الجهة الشرقية قبل أن يراها أحد من قوات الاحتلال.
- قال لها بصراخ مؤلم ودموع تسقط كالمطر: اذهبي يا صغيرتي، اذهبي من هنا.
- ولكن يا أبي..
- أرجوكِ اذهبي يا ابنتي، أنقذي حياتكِ، لم يعد غيرك هنا، هيا سيأتون، ه..ي..ا (هيا)، ا..ذ..ه..ب..ي (اذهبي).
- أبي، أبي، لماذا لا تجاوبني؟
أبي، أتسمعني؟
أبي.
"وهنا سقط الألف وماتت الباء وكسرت الياء، لقد رحل يا صغيرتي"، استيقظت تلك الصغيرة من الخارج، المحملة بهموم ليست بعمرها، وجدت نفسها تنام في أحد الخيام، نعم لقد أنقذها رجل من أصدقاء والدها وأخذها معه؛ فهو من الناس التي نجت من القصف، وبعد عدة أيام ذهبوا خارج البلاد.
وبعد أعوام قد مرت على تلك الحادثة، لازال الاحتلال بتلك البلدة، ولازال القتل مستمرًا لن ينتهي، "وكأن قتل الإنسان يشبه قتل حشرة تزعجهم"، كبرت تلك الطفلة وأصبحت فتاةً ذات ملامحٍ جميلة لم تتغير، وحققت ما تمنت وأصبحت كاتبة في الصحافة، ولكن الآن لا تحكي عن جمال بلدتها، ولكن تطالب بحريتها، تمسك بقلمها، الآن تكتب مذكراتها وتتمنى أن يفك الله أسر بلدتها، وتتذكر ذلك اليوم؛ الذي دمر أحلامها وبلدتها وعائلتها وكل ما تمتلك، ثم سقط القلم من يدها وامتلئت أوراقها بمطر دموعها.
كانت تلك قصة قصيرة لفتاة رأت كل هذا الوجع في عمر صغير، لَكُم أن تتخيلوا كيف حال أولئك الأطفال؛ الذين يعيشون في تلك البلاد، أسأل الله أن يفك أسر جميع البلاد الشقيقة ويحفظ مصرنا الحبيبة.
بقلم /آية زغلول