تركَتْ العنان لقدميها تأخذها أينما تريد، فهي لَم تعد ترغب في الحياة بأسرها، أمنيتها الوحيدة الآن هي أن تموت في الحين، لكن مشكلة الموت أنه لا يكون بالتمني؛ فهي لم تنه عمرها بعد.
وصلَت إلى باب الغابة التي كانت تهابها وتخشى اقترابها، لكنها اليوم لم تجدها موحشة! بل كانت بمثابة الحضن الحنون والقلب الكبير الذي يستطيع هو وحده أن يسعها في هذا الحين.
ظلت تسير بخطوات متأرجحة حتى عجزت عن الرؤيا؛ فقد فقدت بصيص النور الذي كان يأتي من إنارة الطريق، فالآن هي لا ترى شيئًا.
تحسست بيدها شجرة بجوارها، وجلسَت تسند ظهرها على جذعها الصلب، وكأنها قد وجدت السند البديل عن الذي تخلى عنها منذ قليل. احتضنَت ساقيها وضمتهما إلى صدرها، وغمرَت رأسها بينهم وراحت تبكي وتصرخ، حتى راحت في نوم عميق.
ظهر لها من بعيد وهو يقترب بخطوات محترسة، وكأنه يتأهب لاصطياد فريسة يخشى هروبها، وبمجرد أن لمحته قامت تهرول نحوه فاردة ذراعيها، مثل طائر يتأهب لرحلة طيرانٍ يعشقها، وهو ما يزال ثابتًا في مكانه لا يتحرك، وحين قصُرت المسافة بينهما، استدار "فهد" مغادرًا المكان، وقفَت مكانها وتجمدت قدماها وثبت لسانها، وما زال يسير أمامها موجهًا لها ظهره، فظلت المسافة بينهما تزداد وتملأها الدماء، حتى حال بينهما بحر من الدماء.
استيقظت وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة شديدة وتردد اسمه بهلع: فهد... فهد... فهد.
التفتت حولها بتعجب وبداخلها سؤال يطرح نفسه! أين أنا؟ وما هذا المكان؟ هي لم تكن في الغابة، ولا تحت الشجرة، بل كانت في حديقة... جنة... شيء من هذا القبيل!
قامت تخطو بخطوات هادئة وهي تتأمل الورود والأزهار من حولها، كانت تسير على ضفاف بحيرة ماءها أزرق رائع، هذا المنظر الذي كانت تعشق رسمه بفرشاتها المحببة لها، كمْ رسمَت من لوحات ولوحات لهذا الجمال الرباني البديع، ولكن... هل هذا حلم داخل الحلم أم ماذا؟
عند تساؤلها الأخير، كان هو من خلفها يقترب نحوها بهدوء تام، وقف خلفها ولف جسدها بذراعيه ليحتضنها، وأسند رأسه على كتفها وهمس لها بصوت حنون "مخطئ وخطئي ليس له عافٍ سواكِ، مذنبٌ وذنبي عظيم، فهل عفوتِ عني مولاتي أو حكمتِ بعذاب أليم، لكني على ثقةٍ أنَّ قلبكِ بي رحيم".
فزِعَت لوهلة، حتى سمعَت صوته فسكن جسدها، إلا هذا النابض الذي يسكن شقها الأيسر، فقد ازدادت سرعته، فأردف هو مكملًا لكلامه: "أعترف أني أخطأت خطأً ليس بهيّن، لكن إهمالي لكِ كان من أجلكِ."
انعقد حاجبيها باستغراب، ماذا يقول؟ أجلي.
أردف هو قالا: "أترين هذا القَصر الذي على الضفة الأخرى لهذه البحيرة؟"
أومأت برأسها، أي نعم.
فأردف: "إنه قصركِ يا قرة عيني."
برقت عيناها حبًّا، وتراقص قلبها فرحًا "كنت واثقةً به، وقد كان جديرًا بها، ولكن هل سيتجاهل ما حدث؟"
هكذا همست بداخلها وهي ما تزال في حضنه، لَم تحاول الفرار منه، فكمْ كانت بحاجة إليه بعد ليلة أمس؛ وكأنه كان عالِمًا بما يدور برأسها، فأردف بعد وهلة: ''كنتُ هنا يوميًا، منذ ما يقارب عام ونصف، أراقب أعمال البناء والتصميم وكل شيء بهذا القصر، كنتُ حريصًا على أن أجعله نسخة طِبق الأصل من الذي كان في أحلامكِ، وكنتِ دائما تحكي عنه، كل تفاصيله التي ذكرتيها محققة في هذا القصر. آسف على تقصيري وإهمالي الفترة الماضية، لقد كنتُ هنا من أجلكِ''.
أغمضت عينيها بقوة "لقد كان يحوّل حلمي إلى واقع، وأنا لَم أكُن أعي بهذا، لكنه لم يقُل، كيف لي أنْ أعرف بأنَّ غيابه عن المنزل طوال الفترة الماضية كان لهذا السبب؟ لَم يذكر شيء، كما أنه لم يكن يبرر أفعاله، لقد قَل اهتمامه ووجوده في البيت، وهو يعلم أني لستُ أملك أحدًا غيره، يعلم أني أصبحتُ أخاف الناس والقرب منهم، وصارحته بأنه عالمي فلا يغيب، وحين فعل واجهته وقد كان ما كان، هو يعتذر وأنا سامحته قبل أن ألقاه، والآن جاء دوري!"
استدارت نحوه حتى تلاقت عينيها بعينيه، وقالت: "آسفه، أعلم أنها قليلة، لكني على ثقة بأنَّ قلبك بي رحيم"، قالتها وهي تبتسم، فتبسّم هو الآخر بدوره قائلًا: ''المشكلة انتهت منذ أن بدأت، ما زلت أتذكر وعدنا، أن المشاكل لا تدوم، والمسامحة تكون دائما ودون إذن أو أسف. ما مضى ليس له مكان بيننا منذ أن حدث، فقط هيا بنا''، قال آخر كلماته وهو يمسك بيدها ويتجه نحو القارب الصغير الذي كان على ضفة البحيرة الجميلة. ذاب قلبها ودمعت عيناها تأثرًا، ما كل هذا؟ لقد كان وفيًّا بالوعد الذي كنت أثق أنه أصل سعادتنا واستمرار علاقتنا، الحمد لله أنه لم ينسَ، الحمد لله أنه عاد إليّ.
تحرك بهما القارب متجهًا إلى الضفة الأخرى من البحيرة، وبعد بضع دقائق من الصمت قالت: ''مؤكد أنك تعبت كثيرًا حتى تنهي هذا العمل الرائع، لكن حلمي لم يكن جميلًا بسبب القصر يا فهدي؛ بل كان رائعًا بسبب وجودك! أنتَ من سيحول هذا المبنى إلى جنة، وكُن على عِلم أنك الأهم، ولن أتركك مقابل قَصر، إن كان هذا ثمنك وثمن رحيلك فأنا لا أريده، عِدني يا فهدي أنك لن تهجرني ولن تتركني قط...''
وقبل أن تُكمل كلامها قال: ''أعدك، دون أن تقوليها أعدك، لقد عاهدت نفسي منذ أن أصبحتِ لي، أني لن أترككِ ولن أذهب إلا معكِ، أرأيتِ أحدًا يسير بدون قلبه يومًا؟''
تبسمت باستحياء من قوله، وراحت تقلب بصرها في المنظر من حولها تارة وفي ملامحه التي عجزت أن ترتوي منها تارة أخرى، وكان بداخلها جملة تتردد "هذه جنتي بدأت منذ أن قال أعدك، كم أعشقها منه وأعشق قائلها"، ظلت البسمة مرسومه على وجهها الذي كان جماله كافٍ بأن يجعل عيناه لا يتحركان بعيدًا عن وجهها رغم جمال المنظر من حوله؛ وكأنه يعشق أن يرى الدنيا من عينيها العسليتين الذي أدمن رؤيتهما.
قضت أمي أجمل أيامها، والذي كان هذا اليوم أجملهم على الإطلاق، فرغم كثرة الأيام الرائعة في حياتها، إلا أنَّ هذا اليوم أكثر يوم كانت تذكره لي، كانت تحكيه لي بتفاصيله الدقيقة دونًا عن باقي أيام حياتها، وكانت في كل مرةٍ تقول "لا أقول أننا لم نتعارض بعدها، أو أنَّ حياتنا كانت مثالية وخالية من المشاكل، بَلا، كان بها الكثير من هذا وذاك، لكن كل شيء مر بسلام؛ لأن أباكِ كان على وعده، مهما كان حجم المشكلة فهي صغيرة، لا تتجاوز البضع دقائق حتى تنتهي وكأنها لم تكن"، أوصتني كثيرًا بألَّا أنسى أنْ أجعل هذا المبدأ أساس علاقتي بزوجي في المستقبل.
أعلم أنك تريد أن تعرف اسم أمي الحبيبة... اسمها روضة، وسمتني جنة؛ لأني كنت ثمرة حبها والذي كان جنتها.
بقلم: آمنه سامي.
❤️❤️😍
ردحذف